المقدمــــــة :
ان كانت الطبيعة تزدهي وتزدهر وتباهى وتنافس بأزهارها العاطرة وأشجارها الثامرة ومياهها الزلالة لزاخرة ونسماتها الساحرة ونجومها الساطعة في عتمة الليل, فالمجتمع البشري ينافس الطبيعة الصامتة التي تمثل ببعض خواصها, أثراته ومميزاته البراقة. أليست هناك في المجتمع الانساني أفراد قد نشروا في اقوامهم ظلاَ وأرفاَللأستيفاء, دونه افياء الاشجار الملتفة الاغصان ؟ أليس لبعض تلك الاشجار الانسانية أثمار ألذ طعما وأشهى لوناَ وأطيب مذاقاَ مما تجود به أشجار البساتين ؟ أليست هنالك فضائل أزكى وأوفر رائحة من ازهار الجنائن وأورادها ؟ أو ليست هنالك من غرر الاقوا ودرر الحكم ما تفعا في النفوس فوق ما تفعله المياه العذبة في الارض الجافة لتحيي ميتها وتُخضر يابسهل ؟ أليست هنالك عقول نيرة وألباب وقادة وأفكار كالشهب خفةَ هي أنبلُ وأعظم وأفعل , وفي الحياة الغبراء من الاستصباح في عتمة الليل بأنوةار النجوم والكواكب ؟. أولئك هم نور وملحٌ وهم أمثلة عليا ونماذج فاخرة للحياة , وأولئك هم دساتير ليجري على أساليبهم المؤتسون بهم, وهم مصابيح وضيئة لتوضع على المرتفعات فيضيئون لمن في البيت, وهم عيون غنية بالمياه الزلالة التي تفيض للعطشى بلا مثل ولا قبالة. فهم ملاقح العيون ومراصد الفضيلـــة ومجاني الفضل, وفيهم وبهمتكرم الفضيلة ويعلو الفضل وينشر العلم وتشهد المحامد وحسن الخلال. فهذا ما تميز به اولئك الافاضل من شخصيات قريتنا ارادن, منهم من استجاب نداء ربه وسكن في حضوره وأولهم مثلث الرحمة المطران فرنسيس داود , ومنهم لا زالوا يعطون بسخاء وهمة , ندعوا الله أن يمن عليهم بعمر مديد .-
نشـــــأته:
ولد المطران فرنسيس بن قس هرمز بن يوخنا بن مروكي بن داود بن قس كوركيس في قري ارادن التالبعة لأبرشية العمادية في 14 تشرين الاول سنة 1870 م من أسرة كريمة عرفت بخشية الله فكانت أمه مريم مثالا لربيباتها بتقواها , وكان أبوه القس هرمز نموذجا للفضيلة وثقة عند أهل قريته في حل مصاعبهم مشاكلهم. دُعي مواودهما اسحق , الدال على السرور وبرهنت الايام أنه كان موضوع سرور ومباهاة لابناء شعبه..... نبت اسحق ونما تحت ظلال الفضيل وتقوى الله وأودع مدلرسة القرية الكنسية ليتلقن مبادئ الديانة وبعض مبادئ العلوم, حتى اذا بلغ أشده وقد نمت الفضيلة في قلبه مصونة من العبث بسهر والديه التقيين. وبدت عليه نمايل النجابة وجسم فيه توقد الذهن والذكاء الفطري . اختاره راعي الابرشية المطران كوركيس كوكا( 1879 - 1892 ) للحياة الاكليريكية بعد وثوقه من دعوته لخدمة مذبح الرب , وأرسله سنة 1882 الى مدرسة مار يوحنا الحبيب الكهنوتية بادارة المرسلين الدومنيكيين.... هناك داخل جدران تلك المدرسة استهدفت نفس التلميذ اسحق الهدفين الاساسيين للكاهن: الفضيلة والعلم. فطلب الاولى مهتديا اليها بالابتهالات الحارة. واغترق الثاني بجد ونشاط اغتراق الظامئ امام الماء الزلال حتى ارتوى ونال قسطاَ كبيراَ من تفويم النفس وتذكية القلب وثقافة العقل. وهكذا انقضت سنو الدراسة على التلميذ اسحق, فكان لمعلميه موضوع اعجاب وتقدير مة أحدى عشر سنة وللرفقائه اسوة وأنموذجاَ صالاحاَ .
كهنوتـــــــه :
في الاول من حزيران سنة 1893 كانت قافلة من رجال ونساء يبطون من اعالي جبال صبنا الى الموصل وقد لبسوا ثيابها الجبلية الجديدة ذات الالوان المختلفة الباهرة , اولئك اقارب التلميذ اسحق وذووه ومعارفه, وهم مقبلون بمظاهر الفرح ليحضروا رسامته الكهنوتية فـــــــــي الكاتدرائية البطريركية بالموصل وجرت حفلة الرسامة بأبهة بوضع يد مثلث الرحمات ابطريرك مار ايليا الثاني عبو اليونان ( 1879 - 1894 ) في اليوم الرابع من حزيران ودعي المرتسم باسم القس فرنيس داود.
كان أول ما ألقي على عاتق الكاهن الجديد خدمة الشبان فانتدب الى تهذيب الاحداث الجبليين في دير مار ياقو بادارة الآباء المرسلين الدومنيكيين. فأخذ من ثمه يجرى تطبيق ما تلفنه أبان دراسته في اولئك الاحداث المتعطشين الى الفضيلة والعلم. كان المعلم الحاذق الساهر على ملحة تلاميذه منصرفا الى هذا الواجب المقدس وهو يحاسب نفسه عن ساعات عمله, حتى اجتذب اليه قلوب تلاميذه فكانت بين يديه كالورق الناصع ليرسم عليا ما هيأ له حدقه وأدبه الجم من أشكال الفضائل ومبادئ العلم فنجح في عمله الرسولي مدة اربع سنوات نجاحاَ ظهر للعيان وتحدث به القوم. وعلى ذلك طلب به راعي ابرشيته المثلث الرحمةالمطران يعقوب حنا سحار (1894 - 1909 ) واستدعاه الى خدمة الابرشية في نفس قريته ارادن.
إتسع الميدان لهذا الكاهن الغيور , فدخله وهويكرر شعاره " لنبدأ باسم الرب " وبينما كان في مدرسة الدير يهتم بتثقيف عشرات التلاميذ , أصبح اليوم امام مئات النفوس المحتاجة الى خدمة حثيثة وتعب مستديم وعلى هذا ضاعف جهوده وراح يبذر ليحصد ويضع الاسس يبني النفوس بناءَ راسخاَ. فلم تمض السنوات القليلة حتى كانت هذه القرية المباركة قد انتعشت بروح جديدة ودبت في أهلها حياة روحية , فان كاهنهم الغيور عرف ان يسقيهم ماءَ خلاصياَ من مذبح الرب ويرتفع بانظارهم الى المقصورة القربانية من حيث تدر النعم , وراح ينشر مسبحة الوردية بين الرجال والنساء, شيوخا وشباناَ. ولما أيقن من رسوخ هذه العبادة الجمة الفوائد في العقول بحيث اصبحت هدف القلوب , بادر الى الوعظ بفضائل البتول الطاهرة ولم تمض الايام القلائل حتى أقبل اهل هذه القرية اقبالا حماسيا على هذه العبادة وصارت الوردية المقدسة تُتلى بحرارة في اجتماعاتهم العمومية وفي البيوت .
ثم استلفت انظاره خورس القرية وخلوه من النظام المتوجب على البشر في تقديم عبادتهم للعزة الصمدانية , ورأى توصلا الى هذه الغاية ان يلم شعت الشمامسة وينظم قلادتهم في اجتماع خاص, فعقد جمعية للشملمسة وصار يختلف الى اجتماعاتهم وينشطهم وساعدهم في تنظيم الخورس حتى رأت هذه القرية في كنيستها خورساَ منتظماَ لاقامة صلاة الصبح والمساء الطقسية.
واضاف الى اعماله في تهذيب ابنا قريته . انه ادخل اليها عبادة شهر مار يوسف وشهر القلب الاقدس عدا الشهر المريمي. حتى كن الفلاحون المشتغلون يجتمعون في الحقول لتلاوة المسبحة. ولم يقتصر لنشر الثقافة الروحية على الوعظ والارشاد على حد قول الرسول " في وقته وفي غير وقته " بل انه لا بد للتوصل الى نشر ثقافة حقة من وضع الكتب بلغة السوادية فألف كتاب التعلم المسيحي بلغة السوادية الجبلية وطُبع بمطبعة الدومنيكان بالموصل.ونقل ايضا الى هذه اللغة تأملات الشهر المريمي وطبع بامطبعة عينها. هذه وغيرها لأجهد نفسه زيادة على اعماله في نقلها الى اللغة السوادية لفائدة هذه النفوس البسيطة المتعطشة الى التهذيب .
خورنــــه وأسقفيته : تنم عن البنفسجة رائحتها العطرية مهما احتقن في زاوية من الجنينة ومهما حجبتها عن العيون الاوراق الحاسدة. فقد جاء القول الذهبي, لا يوقد السراج ويوضع تحت المكيال ولكن على المرتفعات ليضيئ الذين في الدار. فلأن كان القس فرنسيس الارادني تحجبه عن المدن, الوديان السحيقة والجبال الشاهقة والمسافات المترامية الاطراف, على ان اعمال غيرته ما عتمت ان تضوعت روائحها الذكية وانتشرت انوارها الباهرة الى كل حدب وصوب وتحدث الركبان بتقواه وحلمه ووداعته وسعة صدره واريحية قلبه. وقد اصبحت خورنته ارادن اسوة للقرى المجاورة يؤتسى بتدينها وسلامها السائد في جوانبها... هذاومطران الابرشية يومئذ المثلث الرحمة مار يعقوب يوحنا سحار يسمع ويرى ثمار غيرة كاهنه باعجاب ولذة. فعزم ان يكافئه بما لم يكن ليشغل بال هذا الكاهن, فهو الذي لم يحمل عبء هذا الواجب الشاق ولم يعانِ الاتعاب أملاَ في مكافأة بشرية بل طلباَ لوجه الله الكريم وبلوغها بالنفوس الى مناهل الخلاص. فرقاه وسام÷ خورياَ أسقفياَ ولزيادة وثوقه من كاهنه الغيور ورجاجة عقله في الادارة أخذ يقيمه نائبا اثناء تغيبه عن الابرشية للاهتمام بامور ابرشية عقرة التي كان يديرها مطران العمادية وكالة, ويقضي في افتقاد شؤونها نصف السنة غالباَ. وبهذا ازدادت اشغال الخورى فرنسيس فكان لا يفنأ من زيارةالقرى ويقيم في كل قرية اياماَ للوعظ والارشاد واستماع الدعاوي ووضع السلام بين مسيحيي أهل القرى.فذاعت اخبار غيرته واراد غبطة البطريبرك ايليا الثاني عبواليوان أن يستدعيه الى الموصل ليودع اليه بعض المناصب الدينية, إلا أن تعلق أهل القرى بهكان المانع الوحيد. في سنة 1909 م انتقل الى رحمة ربه المطران يوحنا سحار ليأخذ أجر أتعابه الجمة التي بذلها بروح سخية في قرى تلك الجبال الوعرة فأقيم الخورى فرنسيس نائبا مطرانيا عاماَ. وفي وسط مصاعب هذه الابرشية المتنوعة لم ترخ عزيمته ولم تكل حركته الرسولية بل ازداد نشاطاَ وتضاعف همةَ. فكان يكور الليل على النهار بين الصليب والقلم, مستلهما القوة من صلاة مسبحة الوردية المقدسة للقيام بوجه المصاعب التي كانت تعترض اعماله فلا تلبث ان تخل امام مناعته الشخصية. شاء الرب اتن يزيد الوزنات للعبد الساهر الذي وجد أمينا على القليل وان يقيمه راعيا لقطيع من اغنامه في جو مكفهر. وتم انتخابه اسقفا من مطارنة الطائفة في اليوم ال 25 من تشرين الثاني عام 1909 . وصباح يوم 15 آب من سنة 1910 وهو عيد انتقال العذراء الى السماء , وقف الخوري فرنسيس داود مع الخوري بطرس عزيز امام مذبح الرب في كاتدرائية الشهيدة مسكنته بالموصل وقدم كاهليه طوعاَ للعبء الثقيل ونال الروح القدس بوضع يد مثلث الحمات البطريرك مار يوسف عمانوئيل الثاني (1900 - 1947 ) نودي به أميراَ في الكنيسة ومطرانا على ابرشية العمادية والشمكان وجرى تكريسه بحفلة شائقة. وبعد ايام عاد المطران الجديد الى تلك الارشية العزيزة التي بذل في خدمتها ربيع عمره واستقبلته وفودها بوجو تطفح صوراَ وفلوب تفيض أملاَ. فان كان قد خدمها كاهناَ ووكيلاَ فهو اليوم أباَ يشعر بواجبات الابوة , وهو اليوم راعٍ لا يرى بداَ من أن يجمع في شخصه صفات الرعاية. فوقف امام هذه المسؤولية وقفة البطل المستميت في سبيل الواجب وارتفعت انظاره خلال دقائقها الى افق عالٍ, وخشي ان يفضي عن دمعته ان تفلت منه غنمة الى ذروات الجبال الخطرة او الى اعما الوديان القاحلة, على ان المسؤولية لا تعرف سبيلاَ للتنصل او عذراَ للانتحال, هناك ضمير يرعد وسائل باطني يهدهد. وما أدراك بالقابض على عصا الرعاية , إنه لا يهدأ به بال ولا يقر له قرار ما لم يتبين أمر الرعي عن قرب ويراها واقعة في أمنٍ وخفضٍ من العيش.
( يتبع رجاءَ )