السياحة في العراق
ترك لنا العالم المبدع ، الراحل عن الارض والحاضر ابدا بيننا ، الفيلسوف ( علي الوردي ) ثروة هائلة من مفاتيح الثقافة وطرق التفكير التي يستطيع مفكرونا استخدامها في حل رموز كثير من المعاضل التي تجابههم في اختصاصاتهم وبالاخص منها ما يدخل في حقل التنظير الذي يبتغى منه الادارة فالتطبيق .
كان نمط كتابات الفيلسوف الوردي واقعيا يسلط اشعة اختبارية على العصب الاجتماعي في حياتنا وليرى فيه بوضوح وشجاعة صورة احداث الماضي والحاضر والمستقبل بلا رتوش او تزوير، وكما قلنا في كتابات سابقة فان شجاعة وقدرات الوردي في طرح معظم افكاره ونظرياته المنطقية والواقعية ( والتي لم يسبقه بها أي من المفكرين العرب كما لم يليه احد لحد الان) اجهضت محاولات بعض ممن قد اسميهم بـ ( غير المفكرين ) الذين هزتهم علمية نظريات واّراء الوردي حيث قاموا ( فاشلين ) بالتصدي لها ، فكان ان خدموا الوردي بالقدر الذي خدم ثقافتنا حيث امتدت وانتشرت اراء الوردي ونظرياته لتدرس ولحد اللحظة في ارقى الجامعات العالمية وبأكثر من عشرين لغة حية .
ارى الوردي وكأنه اشترط ضمنا على مفكرينا الذكاء وسعة الافق والواقعية في دراسة الظاهرة الاجتماعية اينما كانت سواءا في حياتنا الشخصية او المنزلية او في العمل بشتى انماطه واختصاصاته ومستوياته ، وكذا الشجاعة في تحليل الظاهرة الاجتماعية وتبيان اسسها المادية او الجنسية من ظاهر ما تتلون به تلك الظاهرة وكأنها تتحرك وفق افكار خيالية مثالية او روحية مستقلة .
كم كنت اتمنى ان يتهافت مفكرونا في كل الاختصاصات للاستفادة من طريق شقه العالم الوردي ليكون للكل بداية صحيحة للوصول بأقصر الطرق الى قمم وصلتها امم اخرى ، قمم تصب في مجرى حياة حرة كريمة وسعيدة لبني الانسان .
سأحاول في سلسلة مقالات مختصة ان ارسم صورة للسياحة في العراق بريشة العالم الوردي ، وابتدأ التذكير بما تحدث به الوردي تاريخيا عن واقع مجتمعنا العراقي وقد مر بمراحل البداوة والريف والمدينة وما تولد من انماط سلوك واحداث في كل مرحلة او خلال فترات تداخل التحول من مرحلة الى اخرى ، مستدركين ايضا ان اثار هذه التداخلات لازالت قائمة اجتماعيا لحد الان .
كان مفهوم العمل في حياة عموم البدو يعتمد بصورة رئيسية على قدرة افراد الجماعة او القبيلة على الكسب من الغير بأعمال الغزو والسطو ، في حين كانوا يكرمون الضيف او المستجير بهم باقصى درجات الكرم ، فهم ( النهاب الوهاب ) ، وقد تكون تلك الضيافة هي اولى صور السياحة في تاريخ مجتمعنا وتتميز بأنها كانت تؤدى بلا مقابل مادي مباشر .
نشؤ القرى والمدن اوجب ظهور بيوت وفنادق ومطاعم بسيطة لاستضافة رواد الريف او المتنقلين بين المدن ، وخصوصا العاصمة بغداد والمحافظات التي يزورها العراقيون لاداء المناسك الدينية ، فلم يكن هناك مجال للغالبية العظمى من العراقيين للانتقال لاغراض السياحة فعلا ، فالفقر والعوز والحروب وتوالي دكتاتوريات الحكم كان يكبح أي تطلع للراحة والسياحة ، بعدها نشأت مصايف في المطقة الشمالية للعراق نشطت خلال توقف فترات الحروب ، ومنها حروب الحكومات مع الاخوة الاكراد .
كان العاملون في اماكن الاستضافة اعلاه لا يحملون اي صفة تليق بالعمل السياحي من تنظيم وجودة خدمة وادارة ، بينما لم تنشأ في العراق اي مدرسة لتعليم علوم السياحة الا في نهاية الستينات حيث انشأ معهد للسياحة في الجامعة المستنصرية بناء على مقترح موظف كلداني عراقي كان يعمل في تلك الجامعة .
كان اغلب العراقيين يستثقلون اداء الخدمة بشتى انواعها وخصوصا الخدمة السياحية ، فهم يعتبرون الخدمة امرا مشينا ، ولا نستغرب ذلك حينما نتذكر ان كثير من ابناء الريف ( حين انتقلوا للمدينة ) فضلوا الجلوس في المقاهي وارسال نساءهم للعمل على اعتبار ان العمل شيء مهين لا يليق الا بالانثى ! فما بالكم ان يقوم ابن الريف هذا بخدمة من هب ودب بتقديم الطعام له وغسل ملابسه !.
بمضي الوقت وبسبب الحياة الاقتصادية الصعبة تأقلم الرجل على الخدمة في المدينة ، لا بل انقلبت الاية فأخذ الرجل يمنع زوجته من العمل خوفا عليها من بقية الرجال الذين قد تعمل معهم ، فيما ظل هو يحمل عقدته الخاصة بـ ( الخدمة ) فاصبح مستوى اداء كل العاملين العراقيين دون المستوى وساعد في ذلك النظم الادارية المتخلفة التي تسمح بفساد العامل ، فيما تبخس تلك النظم حقوق العاملين .
بعد فندق ( شط العرب ) الذي بناه الانكليز في مطار البصرة كأول فندق سياحي حكومي عام متطور في العراق يدار من قبل وزارة المواصلات على حد ظني ، ظهر ( فندق بغداد ) الاهلي كأول مرفق سياحي في تاريخ العراق الحديث يبنيه ويديره الاهالي العراقيون ويحمل مواصفات تتماشى مع مستوى السياحة في العالم حينها ، حيث افتتح في 1958 بعد ان صمم وبني على ايد امهر المهندسين الكلدان من العراقيين ، ولقي نجاحا محليا وعالميا بسبب مالكيه ومديريه وعامليه من السياحيين الكلدان والاشوريين العراقيين الذين لم يمروا بحياة البداوة في المنطقة الشمالية من العراق حيث كانوا يعيشون حياة ريف مستقرة نوعا ما ويقدسون كل انواع العمل ، كما يحملون نظرة المساواة بين الرجل والمرأة في مجال الحقوق والعمل مثلما يحمل المثقفون منهم نظرة الرقيب على مستوى التطور الانساني في شعوب العالم الاخرى ويسعون دون اي معوقات فكرية او عقائدية اللحاق بالمتميز من حضارة العالم بقفزات تتواصل وما بلغت اليه تلك الحضارات بشتى انتماءاتها .
بعد مؤتمر القمة العربية عام 1979 وفي ثمانينات القرن الماضي انشأت الدولة ( وبدوافع سنشرحها في مقالات لاحقة ) مرافق سياحية حديثة محدودة العدد معظمها في بغداد والمنطقة الشمالية على ايدي شركات اجنبية بناء وادارة بينما كانت معاهد السياحة ومدارسها تخرج شبابا احتكوا بالخبرة الاجنبية عن طريق الايفادات او العمل فكان ذلك اول ظهور لبريق سياحة حقيقية في العراق ما برح يتوهج لسنوات معدودة على الاصابع حتى انطفأ بنيران الحروب الطويلة والحصار الذي دام لغاية 2003 .
في مقالنا القادم سنتعمق وبريشة عالمنا الوردي بشجاعة وتخصص علمي في تفاصيل واقع السياحة العراقية قبل 2003 وبشكل لم يسبق طرحه من اي سياحي او مهتم في السياحة العراقية وصولا لفترة ما بعد ذلك في مقالات لاحقة .
كونوا معي لطفا .
نبيل قرياقوس بولص