بقلم فاروق شوشة
هي حالة فريدة في تاريخ الغناء العربي وربما لايكون لها مثيل في الغناء العالمي كله أن يتوحد مبدعان كبيران في صورة فنية واحدة وتسمية واحدة فلايعرف منهما من الشاعر ومن الملحن من الذي صاغ هذا الكلام الجميل الرائع ومن الذي وضع لحنه وموسيقاه فإذا هو بالصورة التي نعرفها له عمل شديد النفاذ والتميز والتأثير, تغنت به فيروز بصوتها الأعذب والأنقي فمنحته سمة الخلود.
هذا هو الأمر في صيغة الأخوين رحباني: عاصي ومنصور, لن نعرف أبدا من الشاعر ومن الموسيقي, فكل منهما شاعر كبير وموسيقي كبير, وقد استمرت مسيرتها معا علي هذا المنوال, علي مدي أكثر من ستين عاما, وهما ـ معاـ نجمان ساطعان في سماء الغناء العربي, تحملهما فيروز علي جناحيها, وتطوف بهما, وبفنهما, إلي كل الآفاق.
وبعد رحيل عاصي, ظل منصور الرحباني وفيا لهذه الحالة الفنية التي أبدعاها معا, وعندما نشر ـ مؤخرا ـ باقة من أجمل القصائد التي تغنت بها فيروز, نشرها باسمهما معا: الغزليات والوطنيات والقوميات, والشجن والغربة والحنين والبكاء والترحال: أنا ياعصفورة الشجن, مثل عينيك بلا وطن/ بي كما بالطفل تسرقه, أول يد الوسن/ واغتراب بي وبي فرح, كارتحال البحر بالسفن/ أنا لا أرض ولا سكن, أنا عيناك هما سكني.
ومع ديوان القصائد المغناة ينشر منصور ديوانيه الجديدين: القصور المائية و أسافر وحدي ملكا. وفي أولهما حديث جميل عن عاصي ورسائل إليه ذائبة في ماء المحبة والحنين, وهو يقول: صحيح أننا, عاصي وأنا, ابنا الدراسة الموسيقية. لكن هناك غرابات تغييرية وفدت إلي موسيقانا. لم تأخذنا إليها المدرسة, لا أعرف من أين جاءت, وعصفت بعطائنا.
هذه الغرابات التي يشير إليها منصور هي موطن الفتنة والتفرد في الصيغة الرحبانية كلاما وموسيقي, شعرا ـ بالفصحي وبالمحكية اللبنانية ـ وألحانا, وإبداعا سامقا حمله صوت سماوي محلق, ليس من أصوات هذه الأرض المحملة بالشهوات والترعات والنزوات والرغبات المحدودة, بل هو صوت أثيري مبحر دوما في الأنقي والأصفي من الطبقات البعيدة في الوجدان.
في مستهل ديوانه الجديد أسافر وحدي ملكا, يقول منصور: ياعاصي, ثلاثون سنة ونحن نبارك الفرح, سأتفجع الليلة كما بالماسي, وكعويل أنبياء التوراة. والديوان بكائية لبيروت, التي عاشت الخطر والدمار ولاتزال. والتي سكنها الرعب والفزع ولاتزال. والتي: يوم, يومان, ثلاثة أيام. نتوسد أرض الملجأ, وحطام العربات, في اليوم السابع جاء القصف, صعدنا, في الشرفات جلسنا, وتنبأت
علي بيروت وصولا إلي قوله قتلوني الليلة ياامرأة, تسكن قلبي. مسحوا بالزيت خناجرهم ثم اقتسموا فرح السلبومنصور الرحباني يبشرنا بأنه قادم إلي القاهرة ليعرض فيها مسرحيته الغنائية الجديدة زنوبيا هو الذي أبدع من قبل عمليه الرائعين عن سقوط و المتنبي وأتيح لجمهور القاهرة- منذ عدة سنوات- أن يعانق فن منصور, المتوحد بعد رحيل عاصي, وأن يتابع فيه ماصنعه الأخوان رحباني من قبل وهما معا, شركة حياة ورحلة إبداع لاتتكرر.
بالفن وحده, ينتصر منصور, والرحبانية جميعا: جيل الآباء وجيل الأبناء علي الأحزان التي يعيشها لبنان, ويمدون من أشعارهم وأنفاسهم, بساط أمل, وجسور محبة, ورؤي حياة, وإصرار مبدعين علي أن يجعلوا الحاضر أغني وأجمل, وأن يغنوا تحت الحصار, ويعبروا فوق الآلم, ويبنوا برغم الخراب والدمار.
وهم لايبدعون للبنان وحده, فالهم العربي واحد, والوجدان العربي كله يموج بأشواق الحرية والتحرير, والرغبة في التطهر بهذه الكلمات والأنغام الرحبانية, وبصوت فيروز.