زهرة الدير
بعد تعب من السير مرَّ بقربِ ديرٍ كان بينه وبين أهله ودٌّ وذكريات،
فسمعَ تراتيلَ جذبته وأيقظت ما كان نائماً في ذاكرته. وهَمَّ بالدخولِ إلى ذلك الدير فمنعه الحارسٌ.
- فقال له: لمَ تمنعْني من الدخول وأنا أعرفُ أهلَ هذا المكان حقَّ المعرفة؟
- الحارس: لا أمنعك سيدي، لكنني أُمرتُ بذلك.
- بلغ آمريك بأنني هنا، وسأنتظرهم في الحديقة، فهل تمنعني أيضاً؟
- الحارس: لا تظن أني حارسٌ مسلح، إنما طُلبَ مني أن لا أسمح للغرباء بالدخول نظراً للوضع الذي تعرفه،
فنفذتُ ما طُلب مني. وسأسمح لك بالانتظار في الحديقة.
- أحسنتَ لأنك نفذتَ، ولا أريد أن أحرجك. سأنتظر هنا.
وبينما هو ينتظر ويفكر في كلمة "الغرباء" التي أطلقها الحارس عليه،
إذ قال في نفسه ستبقى هذه الكلمة ترافقني على اختلاف دلالاتها، نظر إلى زهرة في الحديقة أثارت انتباهه،
فغلبه النعاس ونام من شدة التعب...
قالت زهرةٌ في الحديقة: مرحباً بالضيف الكريم.
- قال: مرحباً بك. لقد سمعتُ هذا الصوتَ من قبل، نعم، لقد تذكرتُ، أليس هذا صوتَ الراهبة...؟...
- قالت: نعم، أنا هي، أعذرُك إن نسيتَ اسمي، فسمني بما شئتَ ما دمتَ قد عرفتني.
- الآن لا أسميك إلا بـ "زهرة الدير"، إن كنتِ لا تمانعين.
- وهل كنتُ أتمنى أجملَ من هذا الاسم؟
- أختاه، لقد منعني الحارس من الدخول، وهو لا يدري أنني كنتُ أعرفكِ وأعرف من في
الدير قبل أن يأتي هو إلى هذا المكان.
- اعذرْه، فهو رجل أمين يؤدي واجبه
- هذا ما فعلت. لكن، ما هذا؟ زهرة... تتكلم...؟ لا أكاد أصدق!
- تحولت إلى زهرة.
- هل هذا يُعقل؟ ليس في عقيدتكِ عندما كنتِ راهبةً أن تتحولي إلى زهرة.
أهو تناسخ من نوع جديد؟
- ليس تناسخاً، ولا تُدخلني في هذا الكلام الغريب، كلُّ ما في الأمر أنني أحببتُ الديرَ وتمنيتُ أن أبقى فيه،
وقد حقق لي صاحبُ الدير أمنيتي.
- مَن صاحبُه؟
- إنه صاحبُ جميع الأديرة في العالم، لا يراه أيُّ شخص، لا لأنه يبخل عليهم بذلك، بل لأنهم لم يلتفتوا إليه،
وكنتُ محظوظةً فاستطعت أن أراه. فقد فعلتُ فعلاً رضي عنه.
- وماذا فعلتِ؟
- غفرتُ لمن قتلني.
- ألا كم تألمتُ وحزِنت عندما سمعتُ بما حدث، فعلى الرغم من أنني شعرتُ بأن ريحَ الشر قادمة،
وحذرتُ ولم ينفع يومئذٍ تحذيري، فلم أظن أن تلك الريح ستمر بك أنت،
فمن يجرؤ على قتل راهبة، لا، بل راهبة مُسنَّة مريضة؟
- كثيرون جداً. هل تزداد معرفةً إن قلتُ لك إن من يجرؤ على قتلِ طفلٍ أو شيخٍ يجرؤ على قتلي؟
على الرغم من أنني كنتُ مسالمةً فقد كان هناك من لا يحب السلم، ولستُ مستغربة،
فما أنا إلا واحدةٌ من أولئك الذين يُقتلون في كل يومٍ بلا ذنب.
وبعد أن قتلني أخبرتُ أخواتي بأني قد غفرتُ له ذنبه، وما إن غفرتُ له حتى زرعني صاحبُ الدير في الحديقة.
فكنتُ أرى أخواتي يصلين ويعملن، وهنَّ يسقينني كلَّ يوم. وأنا بينهن أصلي معهن وأدعو لهن وللجميع بالسلام،
وتلك سعادة لا يعرفها إلا القليل. هل تريد أن تكون معي؟
- لا أخفيك سراً، أنا أخاف من أن أكون معك أو مثلك، فأنتِ قد قُتلتِ وغَفرتِ للقاتل، أما أنا فلا أحب أن أُقتل وربما لن أغفرَ للقاتل.
لستُ طيباً وبريئاً مثلك، أنا أفكر بالقانون أكثر مما أفكر بشيء آخر، وأتمنى أن يُعاقب المجرم لا أن يُغفر له.
- كنتُ متسقةً مع ما أومن به، وكلما غفرتُ شعرتُ بقوةٍ أكبر.
ثم أني أرى فيك طيبةً وبراءة طفلٍ يحب أن يرى الشرير معاقباً كي تتحقق العدالة التي في ذهنه، فمن منا أكثر براءة؟
- فإذا قطعكِ من الدير شخصٌ ورماكِ في الشارع، ولن يبقى منكِ شيء...؟
- إلى الآن كشفتُ لك عن جزءٍ من السعادة التي أعيشُ فيها، فلا تتكلم معي بـ "إذا... فإن"،
ولا تستعمل معي أساليب الاستنتاج. ستريك الحياة راهباتٍ كانت قلوبُ الناسِ أديرةً لهن.
- حزنتُ لأنك مظلومة، وارتحتُ لأنك نلتِ ما تريدين، واحترتُ لأن تفكيري مختلف عن تفكيرك.
- لا تحزن وارتح. لا تحزن لأنني قد ظُلمتُ، ولا تفرح لأنني قد سُررت،
فقد عرفتُ أشياء كثيرة تخرج عن جميع الأضداد التي تعرفها.
- هل تمانعين إن سقيتُك ماءً كلما مررتُ بك؟ فقد أحببتُك حباً غريباً، وأنتِ تعرفين أنني لستُ زائراً "رسمياً"
فأتردد على الدير كثيراً، وربما لا أراك إلا بين مددٍ طويلة، وقد لا أراك أبداً.
- لا أحس بكلمة الرسمي، اتركها ولا تستعملها. وكيف أمانع؟
اسقني ماءً كلما مررتَ بي ولو كان مرورُك بعد ألف سنة.
- وهل ستبقين؟
- آه، لقد عُدتَ إلى ما فيك، نعم سأبقى وأنت كذلك! سواء كنتُ زهرةً وأنت ماء، أو كنتُ طيراً وأنت هواء.
أيقظه صوتُ الحارس الذي قال له: أنا آسف، نسيت أن أسألك عن اسمك، كي أبلغهم.
- لم يجبه، وخرج من حديقة الدير مبتسماً مسروراً ونظر إلى زهرة الدير وقال لها سأعود.
فيصل مجهول 11/1/2007
أعزائي دكتور فيصل غازي مجهول هو أحد أستاذة كلية بابل الحبرية. استاذ في قسم الفلسفة.انه رائع منفتح ومحب.
صديق لرهبانيتنا واستاذ اخواتنتا اللواتي درسن في كلية بابل، يعرف شهيدتنا الأخت سيسيل عن قرب فكتب عنها هذه القصة.